الدرس 40/50 ، سيرة الصحابي : سلمة بن قيس الأشجعي ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان . التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي . بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . أيها الإخوة الأكارم ... مع الدرس الأربعين من دروس سير صحابة رسول الله صلى الله علية وسلم ، ورضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابي اليوم سيدنا سلمةُ بن قيسٍ الأشجعي . سيدنا الفاروق ، عمر رضي الله عنه ، الخليفة الراشد الذي قال عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ *(رواه الترمذي وأحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ)
فهذا الصحابي الجليل عملاق الإسلام ، قضى ليلةً من الليالي سهران ، يعسُّ في أحياء المدينة ، يتجوَّل ، لينام الناس ملء جفونهم آمنين مطمئنين ، وكان خلال تطوافه بين الدور والأسواق يستعرض في ذهنه الأمجاد ، الأمجاد من صحابة رسول الله ، ليعقد لواحدٍ منهم الراية على الجيش الذاهب لفتح الأهواز . الأهواز الآن تقع في غرب إيران ، هذه بلادٌ شاسعة ، لكنها جبلية وعرة المسالك ، أزمع سيدنا عمر رضوان الله تعالى عليه أن يفتح هذه البلاد ، وجهَّز الجيش ، وبقي عليه أن يختار له القائد .ويا أيها الإخوة ... من أسباب نجاح أي قائدٍ حُسْنُ اختياره لقوَّاده ، ولأعوانه ، لأن البطانة إذا كانت صالحة صلح القائد ، ومن الأدعية المأثورة ، دعاءٌ بصلاح البطانة : اللَّهم هيّئ له بطانة خير ، تأمره بالخير وتدلُّه عليه . فسيدنا عمر رضي الله عنه كان حريصاً حرصاً بالغاً ، على أن يختار قوَّاد الجيوش وولاة الأمصار من بين الأبطال الورعين ، الأكْفاء ، المستقيمين ، المخلصين . وأنت أيها الإنسان ، لو عيَّنوك مدير مدرسة ، فبطولتك في حسن اختيار المعلمين ، إن أحسنتَ اختيارهم ، وكانوا مخلصين ، أكْفاء ، انطلقتْ هذه المدرسة ، وإنْ كنتَ مدير مستشفى ، فبطولتك في حسن اختيار الأطبَّاء ، إنهم إن تعاونوا معك ، وأخلصوا ، وكانوا أعفَّة ، نجح المستشفى وأفلح ، في أي مجال ، وفي أي عمل ، في أعمال الحروب ، في أعمال العلوم ، في أعمال التجارات ، في أي مجال ، لن تفلح إلا إذا كان حولك أعوانٌ يجمعون بين الكفاءة والإخلاص . ومن عادة سيدنا عمر ، رضي الله عنه أنه إذا عيَّن والياً يكتب له هذا الكتاب ، يكتب له : ((خذ عهدك ، وانصرف إلى عملك ، واعلم أنك مصروفٌ رأس سنتك - سنة واحدة تجريبية - وأنك تصير إلى أربع خلال ، " أربع حالات " إن وجدناك أميناً ضعيفاً استبدلناك لضعفك ، وَسَلَّمَتكَ مِنْ مَعَرَّتِنَا أَمانَتُكْ ، وإن وجدناك خائناً قوياً ، اسْتَهَنَّا بقوَّتك ، وأوجعنا ظهرك ، وأحسنَّا أدبك ، وإن جمعتَ الجُرمين ، جمعنا عليك المضرَّتين ، وإن وجدناك أميناً قوياً ، زدناك في عملك ، ورفعنا لك ذكرك ، وأوطأنا لك عقبك . استنبط هذا الخليفة الراشد ، هذين المقياسين ، الإخلاص ، والكفاءة ، بالتعبير الحديث ، أو الأمانة، والقوة ، بالتعبير القديم ، من قول الله عزَّ وجل : "قالت احداهما يا أبت استئجره ان خير من استئجرت القوي الأمين
( سورة القصص )
القوي ، ذو الكفاءة ، والأمين ، ذو الإخلاص ، قويٌ أمين ، مخلصٌ كفء . سيدنا عمر من أسباب نجاحه في الخلافة ، أنّه كان يختار ولاة الأمصار ، وقوَّاد الجيوش من القمم، فلذلك قال : ((أريدُّ رجلاً ، إن كان أميراً ، بدا وكأنه واحدٌ من أصحابه - أيْ فيه تواضع -وإن كان واحداً من أصحابه بدا وكأنه أمير)) .لشدة حرصه ، وغيرته ، وحبّه ، يؤمِّر نفسه ، فإن عيِّن أميراً بدا وكأنه واحدٌ من الناس ، وإن كان واحداً من الناس بدا وكأنه أميرهم ، لرعايته ، وحرصه . فالآن سيدنا عمر يريد أن يعيِّن قائداً لجيشٍ يذهب لفتح بلاد الأهواز ، ثم ما لبثَّ ، أن هتف قائلاً: ظفرتُ به ، نعم ظفرتُ به إن شاء الله .كما قال أرخميدس : وجدتها ، وجدتها ، أن تجد الشخص المناسب ، الرجل المناسب ، للمكان المناسب، فهذه بطولة ، وأحياناً لا يقضي على الخلفاء والأمراء إلا بطانة السوء ، إلا الأعوان الذين يُسيئون ولا يحسنون ، يخونون ولا يخلصون ، يأخذون ولا يعطون ، يكونون حجاباً بين الناس ، وبين الأمير. ولما طلع عليه الصباح ، دعا هذا الخليفة العظيم ، سيدنا سلمة بن قيسٍ الأشجعي ، وقال له : ((إني وليتك على الجيش المتوجه إلى الأهواز ، فَسِرْ بسم الله )) ... وبعد ، دققوا في الوصايا التي تكتب بماء الذهب ، والتي أوصى بها عمرُ هذا القائدَ العظيم ، قال له : ((إني وليتك على الجيش المتوجه إلى الأهواز ، فسِرْ بسم الله ، وقاتلْ في سبيل الله مَن كفر بالله ، وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا ، فإمّا أن يختاروا البقاء في ديارهم ، ولا يشتركوا معكم في حرب غيرهم ، فليس عليهم إلا الزكاة ، وليس لهم في الفيء نصيب ، وإمّا أن يختاروا أن يقاتلوا معكم، فلهم مثل الذي لكم ، وعليهم مثلُّ الذي عليكم)) . كلام دقيق مركَّز .. ادعُوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا فخيِّروهم ، إمّا أن يقاتلوا معكم ، فلهم مثل ما لكم ، وعليهم مثل ما عليكم ، وإمّا أن يختاروا أن يبقوا في ديارهم ، فليس عليهم إلا الزكاة ، وليس لهم من الفيء والغنائم شيء . ((فإن أبوا الإسلام ، فادعوهم إلى إعطاء الجزية ، ودعوهم وشأنهم ، واحموهم من عدوهم ، ولا تكلِّفوهم فوق ما يطيقون ، فإن أبوا فقاتلوهم ، فإن اللهَ ناصرُكم عليهم . وإذا تحصَّنوا بحصنٍ ، ثم طلبوا منكم أن ينزلوا على حكم الله ورسوله ، فلا تقبلوا منهم ذلك ، فإنكم لا تدرون ما حكم الله ورسوله ، وإذا طلبوا منكم أن ينزلوا على ذمة الله ورسوله ، فلا تعطوهم ذمة الله ورسوله ، وإنما أعطوهم ذممكم أنتم ، فإن ظفرتم في القتال ، فلا تسرفوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليداً)) . هذا الدرس ينبغي أن يوضع بين أيدي الذين يحاربون المسلمين ، ويمثِّلون في صبيانهم ، ويغتصبون نساءهم ، ويذبحون رجالهم ، ولا يرقبون فيهم إلاًّ ولا ذمة .قال سلمة : سمعاً وطاعةً يا أمير المؤمنين . وصية ، دقيقة جداً ، توضِّح المنهج ، الدعوة إلى الإسلام ،(( إن أسلموا ، فلهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ، هم مخيَّرون ، إما أن يقاتلوا معكم ، وإما أن يبقوا في ديارهم ، إن بقوا فلا عليهم إلا الزكاة ، وإن قاتلوا فلهم الفيء ، إن أبوا أن يسلموا ، فادعوهم لدفع الجزية ، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون ، واحموهم ، لا تكلفوهم أن يحاربوا معكم ، وإن أبوا فقاتلوهم ، وإن انتصرتم عليهم ، فلا تقتلوا وليداً ، ولا شيخاً كبيراً ، ولا امرأةً ، ولا تعقروا نخلاً ، ولا تذبحوا شاةً)) ، هذا من وصايا الخلفاء الراشدين ، رضوان الله عليهم أجمعين . فقال سلمة : سمعاً وطاعةً يا أمير المؤمنين ، فودَّعه عمر بحرارةٍ بالغة ، وشدَّ على يديه بقوة، ودعا له بضراعة ، لأنَّ عمر كان يقدِّر ضخامة المهمة التي ألقاها على عاتقه ، وعاتق جنوده . ما هي الحرب ؟ الحرب أن تضع روحك على كفِّك ، فإما أن تعود غانماً ، وإما أن تموت شهيداً ، كلمة موت عند الجبناء شيء مخيف ، يقول لك : يقولون عني : ألف جبان ولا : "رحمه الله" ، ألف جبان هكذا الجبناء، لكن المؤمنين ، لهم شأنٌ آخر ، جادوا بأنفسهم ، ولله در القائل :***
تجُود بالنفسِ إذْ أنتَ الضَّنينُ بهاوالجودُ بالنفسِ أقصَى غايةِ الجودِ
***
قال سيدنا عمر في نفسه : الأهواز منطقةٌ جبليةٌ وعرة المسالك ، حصينة المعاقل ، واقعةٌ بين البصرة وتخوم فارس ، يسكنها قومٌ أشداء أقوياء ، ولم يكن للمسلمين بُدٌّ من فتحها ، أو السيطرة عليها، ليحموا ظهورهم من هجمات الفرس على البصرة ، ويمنعوهم من اتخاذها ميداناً لجنودهم ، فتتعرض سلامة العراق ، وأمنه للخطر . مضى الجيش ، وانطلق إلى الأهواز ، والذي لا يعرف بلاد الحجاز في الصيف ، لا يقدِّر قيمة الجهاد في هذه البلاد ، وانظُرْ في تعليمات الحجاج عند وجودهم في الديار المقدسة : إياك أن تغادر مقرَّ سكنك إلى البيت الحرام في النهار ، لأن الإنسان قد يصاب بضربة شمسٍ قاتلة ، وهناك حجاجٌ كثيرون يصابون بضربة شمسٍ مع استعمال المظلة ، فكيف إذا انطلق جيش من المدينة ليتجه نحو الشمال ، في هذا الحر الشديد . مضى سلمة بن قيس ، على رأس الجيش الغازي في سبيل الله ، غير أنهم ما كادوا يتوغَّلون قليلاً في أرض الأهواز حتى دخلوا في صراعٍ مرير مع طبيعتها القاسية ، فقد طفق الجيش يعاني من جبالها الوعرة ، وهو مُصْعِد ، ويكابد من مستنقعاتها الموبوءة ، وهو مسهل . السهول كلُّها مستنقعات ، والجبال كلُّها وعرة ، ويصارع أفاعيها القاتلة ، وعقاربها السامة ، كلُّ جنديّ منهم يقظ دائماً . لقد وجدوا أفاعي وعقارب ، وجبالاً وعرة ، وسهولاً فيها مستنقعاتٌ آسنة ، وفيها حشرات ، وأوبئة وأمراض ، وأرضًا لا يعرفونها ، وعدوًّا يخشون بأسه ، وهم خرجوا من الصحراء ، من أرضٍ حارةٍ ، إلى أرضٍ باردة ، هؤلاء هم الصحابة ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ*(متفق عليه)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي اللَّهَ اللـَّهَ فِي أَصْحَابـِي لَا تَتَّخِذُوهُـمْ غَرَضًا بَعْدِي فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ *( مسند الإمام أحمد : رقم " 19641 " )
أي دعوني وأصحابي .لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ *(متفق عليه)
المؤمن الكامل ، لا يستطيع ، أن يتكلَّم كلمةً واحدةً في حق الصحابة ، من أنا ؟ متى كان الجنديُّ يقيِّم رؤساء الأركان ؟ متى كان الممرضُ يقيم الأطباء الكبار ؟ متى كان البائعُ المتجول يقَيِّم رؤساء غرف التجارة ؟ متى ؟ !! ومَن نحن حتى نقيِّمهم ؟ ومن نحن حتى نوازن بينهم ، وبين غيرهم ؟ ومن نحن حتى نتقصى أخطاءهم ؟ .اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابـِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ *( مسند الإمام أحمد : رقم " 19641 " )
لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ *(متفق عليه)
كان الصحابة عندما يحاصِرون مدينةً محصنةً لها سور مرتفع ، يرجو أحدُهم إخوانه أن يرفعوه إلى قمة الحصن ، ويلقي بنفسه إلى داخله ، ومَن بداخله ؟ أعداءٌ ألدَّاء ، معهم السيوف ، والرماح ، ينتظرونه ، كي ينهشوا لحمه بسيوفهم ، ويقع هذا الصحابي خلف السور ، ويضربه الكفار ، ستةً وثمانين طعنةً في جسمه ، ويفتح باب الحصن ، ويستشهد ، ماذا فعلتم أنتم ؟ فنحن وأنا معكم ماذا نفعل؟ لا نفعل شيئاً ، يقولون هذه الأيام : لا نرى مراوح في المسجد ، لا يُطاق الدرس بلا مروح ، وفي الشتاء يشكون البرد ، ولا تشتغل المدفئات ، والمواصلات صعبة ، هذا درس فقط، ونزلت كلُّ هذه الشكاوى ؟ مرة المواصلات ، مرة المراوح ، ومرة التدفئة ، ماذا نفعل نحن ؟ لا يتحمل الإنسان شيئًا من المشقة .يتبع التتمه